ثم كان الأمر على ما قدمنا من فضل الله العظيم على عباده المؤمنين بان جمعت جميع روايات الصحابة والتابعين من المتقدمة اسماؤهم حتى انتهيت الى أربعة من خيرة هذه الأمة المكرمة المشهورين بالأربعة الأئمة المجتهدين، الذين هم من خيرة عصور هذه الأمة المبينة فى قول الصادق الصدوق صلى الله تعالى عليه وسلم ( خير القرون ) الحديث.
وقد اجمع علماء الأمة الأسلامية انهم من مصداق قوله تعالى ] وأولى الأمر [ الذين ينتهى اليهم الاستنباط من الكتاب والسنة والأجماع، والذين هم المرجع الأول والحجة الاولى فى دين الله تعالى، وقد أناروا الطريق فى ذلك لكل من كان على قدمهم من خيرة هذه الأمة ممن توجد فيه اهلية للقياس والأستنباط فى اصول الدين من فروعه واحكامه. واجمع خيار الأمة بأنهم قد رووا جميع ما صدر عن حضرته e ـ من الأقوال ـ والأفعال والتقديرات ـ فى جميع الأمور الدينية الشرعية الفرعية، وكل واحد منهم قد جمع ما وفقه الله اليه من بياناته الشريفة فى هذا الدين الحنيف السمح السهل، للتخفيف على جميع كل من يرغب التقرب الى الله ممن يقتدون بحضرته e. وصار الأمر على ذلك واطبق خيار علماء الأمة على ذلك، وكان جميع ما وفقوا فيه بالحصر من بياناته الشريفة المتنوعة فى الحكم الواحد للتيسير كما قدمنا، وليس هو خلافا بينهم، ولا ما يسمى برائحة الخلاف. اذ الجميع على الحق الصريح الواضح، والحق واحد، لا خلاف فيه بين أهله، وما الخلاف ألا قد نشأ عن المخالفين لأهل الأجماع ممن ينتسبون الى الاسلام اسما ويظن كل جاهل بهم أنهم من أئمة المسلمين، ولم يدر انهم لأهل الحق مخالفون، فقد شوهوا الاسلام والمسلمين بنسبتهم اليه واليهم، لأنه يظن كل جاهل بهم أنه يوجد خلاف بين المسلمين، ومن اطباق جهله يقول هؤلاء الائمة الاربعة يوجد بينهم الخلاف.
وكيف يتصور عاقل أنهم يكونون أئمة للمسلمين وأنهم على الحق وانتهت اليهم جميع أحكام الدين من أصل وفرع، ويوجد الخلاف بينهم بحكم ولا بقائله ولا المنقول عنه ويكون قد التبس الحق بالباطل والمحكم بالمتشابه ــ هذا باطل البتة.
ومن يفهم أن كل دخيل على الاسلام والمسلمين ممن ينتسبون اليه واليهم على حق، فهو مخطئ، ومن هؤلاء الذين أحدثوا الخلاف فى الفرعيات حتى شككوا البسطاء من المسلمين بنسبتهم هذه، خصوصا اذا كان لهم أشياع ومتشايعون ممن على مبادئهم من الضالين، مع العلم بأنهم لأهل الحق وأتباعه معروفون، وانهم فى نظرهم مخالفون هم ومن تبعهم من الفرق المخالفة حيث قال سيد العالمين ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه ) الحديث يرويه أبوداؤد.
فمن مهام بيانه الشريف e أنه يوجد بين المسلمين أقوام، يظن الناس فيهم أنهم على الحق والصواب، وهم مخطئون، مرقوا من الدين كما مرق السهم من الرمية، فمثل هؤلاء شوشوا على البسطاء من المسلمين حتى ظن الكثير منهم فى تعدد معان احتمالات الآيات، أو الاحاديث أنها خلاف فى الآراء، جهلا منه ومنهم، بأن هذه آراء مختلفة ــ ولكنها معانى مشتملة محتملة.
فقد عرفت أن كل من يفهم أن هذا يسمى خلافا، فهو جاهل بأمور دينه، قاصر عن ادراك أصوله وفروعه ولعجزه وقصر همته عن ادراك ذلك يقول بخلاف الائمة.
وماجاء أحد من بعدهم وادعى هذه الدعوى الا كان ما ادعاه مندرجا تحت ما دونوه، واشتمل عليه جميع ما استنبطوه، ولم يترك منهم الاوائل للأواخر شيئا، بتوفيق الحق عز وجل. وأما ما يرى من ظاهر التغاير فى الحكم الواحد بين الائمة، فليس بخلاف لأن الغرض من بيانه الشريف تأدية الحكم على أى وجه، يراد تيسيرا للعبد.
ولذا كان اجماع خيار الأمة على ان هؤلاء الاربعة، هم الذين احاطوا بالكتاب والسنة، ولم يشذ منهم احد. فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين خيرا.
ولست أدرى من ينكر على هؤلاء الائمة الكرام ونابعيهم من خيرة اهل لأنام هل هو مخبول فى عقله، او مطعون فى نسبه وأصله، لأنه ما تعلم العلم وترب وترعرع آلا فى حضانتهم، ونشأ على موائد كرمهم، ثم بعد أن بلغ نكص على عقبة وأنكر نعم ربه عليه، وكان عاقا لوالديه.
فكيف ينكر متابعة من هم خيرة خير القرون المجزوم لهم بالعدالة والأتقان عادلا عنهم ألا من وجدوا فى افسد واسوء قرن اهل هذا الزمان، ممن جاء بعد الألف، أو من اسمى لهم هذه المفاسد، بعد الثمانمائة سنة افلا يعقلون ؟ افلا يبصرون ؟ افلا يسمعون ؟ صدق الله العظيم حيث قال] وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى اذانهم وقرا. وان يروا كل اية لا يؤمنوا بها [ الاية.
وها هو قول ولى الدين بن خلدون ! وفق التقليد فى الامصار عند الائمة الأربعة : ابى حنيفة ومالك والشافعى واحمد، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسر الناس باب الخلاف وطرقه، لما كثر من تشعب الاصطلاحات فى العلوم، ولما عاق عن الوصول الى رتبة الاجتهاد، ولما خشى من اسناد ذلك الى غير اهله، ومن غير اهله، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه وصرحوا بالعجز والاعواز، ورد الناس الى تقليد هؤلاء الائمة الاربعة، كل بما اختص به من المقلدين وحظروا من ان يتداول تقليد من سواهم لما فيه من التلاعب، ــ ولم يبق الا نقل، من مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب مقلده منهم، بعد تصحيح الأصول، واتصال سندها بالرواية، ولا محصول للفقه اليوم غير هذا، ومدعى الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه، مهجور التقليد، وهم :
(1) ابو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفى التابعى
رضى الله تعالى عنه
الأمام قدوة العلماء الاعلام وشيخ مشايخ الاسلام العالم الجليل القدر الشهير الذكر المتفق على جلالته وفضله وعلمه. ترجمته واسعة افردت بالتأليف مولده سنة 8. توفى ببغداد سنة 15. وله بعد المسند المخارج. ـ رواها ابو يوسف عنه. وله آراء جمة فى جميع اضراب الدين. اخذها عنه اصحابه ومتابعوه. كأبى يوسف ـ ومحمد وزفرين الهزيل ـ وغيرهم. حتى دون عنه جميع اصول فقه مذهب الحنفية التى انتهت بالجامع الكبير، الذى شرحه العلامة السرخسى. وانتشر مذهبه بالكوفة والشام والعراق وما وراء النهرين والروم وغيرها. واتباعه كثيرون جدا، من كل من وفقه الله بمتابعته.
(2) مالك بن أنس الاصبحى امام
دار الهجرة رضى الله
تعالى عنه
الوارث لحديث رسول الله، الناشر فى أمته الاحكام والفصول، العالم الذى انتشر علمه فى الأمصار، واشتهر فضله فى الأقطار، ضربت له أكباد الابل وارتحل الناس اليه من كل فج. كان مولده سنة 93 وتوفى سنة 179، وله بعد الموطأ المدونة، وله رسالة فى الوعظ، ورسالة فى الرد على القدرية، وكتاب فى النجوم، وتفسير غريب القرآن، واخباره كثيرة. ومن المدونة أسست هنا أصول مذهب المالكية. وكان معاصرا للامام أبى حنيفة. وكلا منهم أخذ عن الآخر، وكل شهد لصاحبه بالفضل والعلم. وانتشر مذهبه بالحجاز والبصرة وما والاها. وبافريقيا والمغرب والاندلس ومصر. وأتباعه كثيرون جدا. من كل من وفقه الله تعالى لمتابعة مذهبه.
(3) أبو عبد الله بن ادريس الشافعى
المطلبى رضى الله تعالى عنه
الامام البعيد الصيت والذكر، الجليل القدر، علامة الدنيا بلا نزاع، الحافظ الحجة النظار. المتفق على جلالته وفضله، وعلمه وشهرته فى أقطار الأرض، فغنى عن التعريف به. وترجمته واسعة أفردت بالتأليف. ومولده بغزة سنة 15. وتوفى بمصر سنة 2.4 وله بعد المسند كتاب الام ــ وكتابه فى أحكام القرآن والسنن واختلاف الحديث. وكتاب السبق والرمى، الذى لم يسبقه اليه أحد والاشربة وفضائل قريش. وأدب القاضى والمواريث وهو تلميذ الامام مالك. وروى عنه خلق كثيرون، منهم الامام أحمد بن حنبل قال الفضل بن زياد سمعت الامام أحمد بن حنبل يقول : هذا الذى ترون كله او عامته من الشافعى. وقال المذنى سمعت الشافعى يقول : حفظت القرآن وأنا ابن سبع، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر وله أتباع كثيرون جدا من كل من وفقهم الله تعالى لمتابعة مذهبه وانتشر مذهبه انتشار مذهب أبى حنيفة ومن دعائه : اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير وهو مشهور بين العلماء بالاجابة واصل فقه مذهبه الأم.
(4) أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل
البغدادى t
الامام الثقة الثبت الأمين الحافظ الحجة النظار على جلالته وورعه وعلمه. كان من علية أئمة الحديث ترجمته عالية ذكرت مفردة ومضانة. ولد سنة 164 وتوفى ببغداد سنة 241 ـ وله غير المسند كتاب فى الناسخ والمنسوخ. ـ وكتاب فى الرد على من ادعى التناقض فى القرآن. ـ وكتاب فى التفسير. ـ وكتاب فى التاريخ. وكتاب فى فضائل الصحابة، وكتاب فى المناسك، وكتاب فى الزهد، وكتاب فى الصلاة، ومنها تأسست أصول كتب مذهب الحنابلة ـ وهو تلميذ الشافعى وانتشر مذهبه انتشارا عظيما من بلاد الشام وغيرها. وقد روى عنه البخارى ومسلم وأبو داؤد وغيرهم.
فهؤلاء الاربعة الاعلام، انتهت اليهم أئمة الدين الاسلامى ووقف التقليد عندهم، فى سائر الاقطار والامصار، الى هذا الوقت والاوان. وقال كتاب حجة الله البالغة ـ اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر الصحابة ( أى جماعة ) من حملة العلم. انجازا لما وعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. حيث قال ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ) فأخذوا عمن اجتمعوا معه منهم صفة أداب قضاء الحاجة ــ والوضوء والغسل والصلاة والح. والنكاح والبيوع وسائر ما يعرض ويكثر وقوعه من مستلزمات الناس فى أمور دينهم ودنياهم. وسألوا عن المسائل واجتهدوا فى ذلك كله حتى صاروا كبراء القوم ووسد اليهم الامر ونسجوا على منوال شيوخهم ولم يألوا فى تتبع الايماءات والاقتضاءات فقضوا ـ وافتوا ورووا وعلموا فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين خيرا