الحمد لله أنيس الذاكرين وجليس المقبلين، وصلى الله وسلم على أجل وأعظم من صدق في الذكر وصار بذكر المذكور له أجل مذكور سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته وأصحابه وتابعيهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
لعلك أخي السائر إلى الله عز وجل قد خلوت بنفسك سويعةً بعد المجلس الماضي، شرعت في الذكر طلباً للترقي في مراتب الذكر، كنا نتذاكر بأن الذكر يبتدأ معنى الحضور فيه مع الله عز وجل بالانصراف عن تشويشات الوجود الذي يحيط بنا، العالم، الخلق، بالخروج من وساوس النفس والشيطان وخطرات القلب..
ذكرنا أنه يمكن للمبتدىء بمجاهدة نفسه على طلب الحضور مع الله أن يتصور أمامه ويتخيل حروف الذكر فيكون أول معنى للحضور هو الحضور مع الحروف ثم إذا انصرف عما يحيط به إلى الذكر الذي هو فيه فليـُعمِل النظر في معاني الحروف التي يذكر الله عزوجل بها، يستشعر معنى إخراج ما سوى الله من قلبه عند النفي والإثبات في لا إله إلا الله، ويستحضر تعظيم الحق عزوجل وتنزيهه في التسبيح إذا قال سبحان الله، ويستشعر عظمة الحق إذا قال الله أكبر، ثم يرتقي بعد الحروف والمعاني إلى استشعار الحضور مع المذكور سبحانه حيث تضمحل الحروف وتضمحل المعاني ولا يبقى ساعة الذكر إلا الباقي سبحانه عز وجل، حيث يستشعر الذاكر أن هذا العالم الذي يحيط به هباء،. يضمحل في مشهده، بل يستشعر أنه هو هباء يـَفنى في مشهده فلا يبقى أمامه إلا من يـَذكـُر سبحانه عز وجل، ولو تذكرون كنا نقول أن هذا الأمر في أوله يحتاج إلى تكلـّف، يحتاج إلى مجاهدة للنفس، يحتاج إلى الصبر والمكابدة يحتاج إلى أن تسبقه مقدمة إتقان الفرائض على وجهها.
مراتب الذكر:
1) ذكر باللسان: أي اشتغال هذه اللحمة (العَضَلة) بتحركها بذكر الله عز وجل وهو عطاءٌ من الله أن يلهمك الله عزوجل أن تـشغل لسانك بذكره هو بحد ذاته عطاء ينبغي بأن تشهد فضل الله فيه ينبغي أن تحمده عليه، شكا بعض السائرين إلى شيخه يقول: إنني أشتكي عدم حضور قلبي مع الله عزوجل في الذكر، ذكري فقط باللسان فـَلـَمَح الشيخ في كلمة التلميذ مع الرغبة الصادقة في حصول حضور القلب إشكالاً، وهو أنه لم يستشعر عظمة منـّة الله عليه، حيث شغل لسانه بذكره، فقال له: فلتحمد الله الذي زين جارحة من جوارحك بذكره، شغل شيئاً من أعضائك بذكره فإنك إذا شهدت هذه النعمة وحمدته هيأك للمرتبة التي تليها، ومن أدمن الذكر باللسان بصدق النية وإخلاص الوجهة.. لابد وأن يثمر هذا الذكر في قلبه نوراً يرتقي به إلى ذكر القلب وهي الرتبة الأعلى.
2) ذكر بالقلب: أول مراتبه استحضار معنى الذكر، وثاني مراتبه تذوق معنى الذكر، ما الفرق بين الأمرين؟
استحضار معنى الذكر، عند الذكر تقول لا إله إلا الله هذا معناه لا معبود بحق إلا الله، لا موجود على وجه الحقيقة إلا الله، لامقصود إلا الله، لا مشهود إلا الله، نفي ما سوى الله عز وجل عن قلبك، هذا شيء تستطيع أن تستحضره في قلبك وعقلك أن تتفهمه لكن الاستمرار على هذا الحال على وصف الإخلاص يجعل القلب يتذوق لذة الذكر، يعرف أن لـ (لا إله إلا الله) ذوق، لها لذة (سبحان الله) لها لذة أخرى (الحمد لله) لها لذة ثالثة (الله أكبر) لها لذة رابعة..
مراتب تلذذ في: (( لا إله إلا الله )):
1) يتلذذ بمعنى أن الله أكرمه بالتوحيد فهو لا يعبد غير الله، في كل مرة يقول فيها لا إله إلا الله يذوق لذة نعمة التوحيد، لا معبود إلا الله.
2) هناك طعم آخر لـ(لا إله إلا الله) يذوقه القلب وهي لذة إفراد الوجهة إلى الله، لا مقصود إلا الله، لا أقصد في حياتي غير الله، لا أطلب إلا الله، لا أرغب في غير الله لا أتوجه إلا إلى الله.
3) هناك طعم أرقى وهو الثالث لا موجود إلا الله، ما معنى لا موجود؟ هذا العالم الذي حوالينا؟ نعم هو موجود لكن ليس موجوداً بذاته باستقلاله، من الذي أوجده؟ الله، ولو لم يتجلى عليه الله عز وجل بقوله (كـُن) لما كان، فإذاً هذا الوجود ليس له وجود بذاته لولا أن الله أوجده، فلا موجود بذاته باستقلاله إلا الله، فتشهد أن لا موجود أمامك إلا الله، هذا معنى.
4) هناك طعم رابع لـ(لا إله إلا الله)، لا مشهود إلا الله، أي ما تشهد أمامك فيما ترى في هذا العالم من تحرك أو سكون أو عطاء أو منع أو حزن أو فرح إلا الله، من الذي ألهم فلان أن يعطيك؟ ومن الذي ألهم فلان أن يمنعك؟ من الذي ألهم فلان أن يدخل السرور على قلبك؟ ومن الذي ألهم فلان أن يحزنك؟ الله، كل هذا العالم صور في تحركاته من وراء هذه الصور مصور عظيم إذا استشعرت لذة ذكره ارتقيت لأن تكون معه لا مع هذا الوجود.
الذكر فواكه ومذاقات:
سبحان الله كنا نتكلم عن مذاق لا إله إلا الله ومذاق سبحان الله ومذاق الحمد لله والله أكبر مذاق أستغفر الله، ومذاق الصلاة على الحبيب عليه الصلاة والسلام، اليوم الناس ينشغلون عند ذكر المذاقات بالأطعمة، يعرف الواحد كيف يفرق بين طعم الأرز وطعم الخعيب ويعرف يفرق بين مذاق السلطة والخضروات وبين مذاق الفواكه، ثم بعدها يعرف يفرق بين مذاق الأرز إذا طبخ مكبوساً أو إذا طبخ مسلوقاً، الطعام الواحد له مذاقات .
لكن تعالوا نخرج عن الأسر الذي نعيشه في أن تنحصر معاني الذوق عندنا فقط على مشتهيات الأنفس، إيه.. إن لقلبك ذوقاً وشوقاً وتشهياً لا تحسر ولا تحرم نفسك من لذته، فإذا ارتقى الإنسان إلى ذكر القلب أورث القلب نوراً يسميه العلماء نور المعرفة بالله..
3) ذكر الروح:
القلب ذكره يورث معرفة الله لكن الروح ما هو ذكرها؟ ذكرها أن تهيم في الشوق إلى الله عز وجل، أن تهيم في محبة الله، أن يأخذها معنى تلذذها بالقرب منه سبحانه، بأنسها به فـتـَذوقِ الروح للذكر حب، حُب!!؟ هذه أرقى كلمة في العالم اليوم لكن الناس قد سقطوا بها في كثير من أحوالهم إلى الدون، المحبة شيء عالي.. أرقى ما يمكن للقلب أن يتوجه به القلب، أن تتوجه به الروح، فإن الروح إذا توجه بالحب ارتقى صاحبه..
وهنا يأتي ارتباط الذكر بالحب ففرق كبير بين من يشتغل بالذكر وروحه تتوهج وتتوقد حبا وبين من يذكر فقط ليذكر، يذكر فقط ليمضي وقتاً، يذكر فقط ليحصل الخير وهو على خير، لكن الفرق كبير ومن صدق في محبة الله فلا بد وأن يكون مكثرا من الذكر، من (أحب شيئاً أكثر من ذكره).
4) ذكر السر (السريرة).
5) ذكر أرقى، وأرقى..
ولا منتهى للمراقي، لماذا لا منتهى للمراقي؟ لأنها متصلة بالله (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى)، إذاً لا منتهى للمراقي، لكن الذي يعنينا من هذا الحديث الآن ونحن نتحدث على الملأ مع العالم مع كل من يسمع: أن المسلم قد أكرمه الله عزوجل إذا صدق في طلب القرب من الله بإكرامات في باطنه هو، في داخله يعيش بها قيمة الحياة ليخرج بها من أسر الشهوات، يخرج بها من أسر المحدودات المحصورات الماديات يرتقي بها من أن يسقط بها إلى الحضيض، من أن يُشيء، تعرفون معنى يشيء؟ يتحول الإنسان إلى بضاعة إلى شيء، نحن في زمان صال كل شيء يحيط بنا يشيء، صار الإنسان بضاعة نحن في زمان أوصل التقدم والتطور والحضارة والانجازات العلمية أوصلت الإنسان إلى أن يفقد قيمة إنسانيته، في بعض البلدان نجد أن المحكوم عليهم بالإعدام يؤخذون في سيارات كبيرة وعلى سرر مثبتة بحديد وقيود ثم يذهب بهم إلى مركز طبي ويأتي طاقم الأطباء الطبيب الأول يحقن كل واحد منهم بحقنة يموت بثلاث دقائق بعد أخذها، والآخر يفتح الصدر والبطن ويدور على الذين ماتوا واحداً بعد واحد والثالث يأخذ القلوب والرابع يأخذ الكلى والخامس يأخذ العيون فيتحول الإنسان إلى بضاعة تودع بعد ذلك في بنك يباع ويشترى فيها..
جاء نور المعاملة مع الله ليرتقي الإنسان من هذا المستوى من الانحطاط الذي يتحول فيه حال الإنسان عندما يفتح الله عليه بالمُكنة في هذه الأرض، عندما يلهمه الله اكتشاف أسرار هذه الأرض، قوانين هذا الكون، نواميس هذا الكون، يعطيه أن يحفر في الجبال ويغوص في البحار ويخترق الفضاء، وبعد ذلك كله يكتشف أنه فقد وجوده فقد ذاته، يعيد للإنسان معنى إنسانيته، معنى أنه عبد لرب أحبه وكرمه (كََّمْنَا بَنِي آدَمَ)، أن فيه سر النفخة (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) أن فيه معنى الارتباط بسر الأمانة (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً).نور البصيرة.. عين القلب..
إذا ارتقى الإنسان في معنى يذوق فيه لذة صلته بربه حال الذكر انفتح للإنسان في باطنه شيء يسمونه البصيرة، يسمونها الفراسة، يسمونه التوفيق، يسمونه الالهام، يسمونه الفتح، يسمونها المعرفة بالله يسمونها عين القلب (إِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) هذه البصيرة إذا توقدت بنور الذكر في قلب السائر إلى الله بدأ ينظر إلى الوجود الذي يحيط به نظرة تختلف عن نظر الغافل، إذا نظر إلى شيء نظر إليه نظر إليه بعين المتبصر، العين إذا نظرت إلى شيء من أمور الدنيا تنظر إلى ظاهر زينتها والقلب ينظر إلى باطن عبرتها، العين تنظر إلى اخضرار الأرض إذا اخضرت فتلتذ النفس بجمال اخضرارها لكن القلب ينظر من وراء ذلك إلى عظمة من جعلها خضراء إلى عظمة من أبدعها، إذا هب النسيم العليل فشعر الإنسان بجمال هذا النسيم إذا هبَّ أخذت النفس حظها من تلذذها ببرودته وعذوبته لكن القلب يأخذ شيئاً أكبر وهو أنه يستدل بالنسيم على من نسمه، على من أجراه، على من أنعم عليه به، إذا شرب أحدنا شربة من الماء العذب فيه شيء من البرودة في شدة الصيف وحرارته، النفس تلتذ مع الجسد بجمال ذلك وعذوبته لكن القلب يلتذ من وراء ذلك بشهود فضل المنعم الذي سقى سبحانه وتعالى، الذي جعل هذا الماء عذباً وهنا يأتي الذكر “الحمد لله الذي سقاني برحمته ماءً عذباً فراتاً ولم يسقني بذنوبي ماءً ملحاً أجاجاً“..
هكذا حال المريد هو يلتذ، لا تظنون أن السائر إلى الله السالك الطالب لمعنى القرب من الله عزوجل محروم مما يتنعم به غيره من الغافلين، لا والله!! إنه يتنعم أضعاف تنعمات الغافلين، هو يلتذ بعذوبة الماء لكنه يلتذ مع ذلك بما هو أعظم بعذوبة شهود فضل الذي ساق له هذا الماء، إذا سمع صوتاً جميلاً حدا بنغمة جميلة ببيت من الشعر جميل أخذه جمال الصوت مع جمال النغمة مع جمال الكلمة ليرتقي به مع استعذاب النفس وحظ النفس من الطرب يرتقي به طربه إلى استعذاب من أودع الكلمات روح المعاني، ومن أودع الحنجرة حبال الصوت هذا الجمال عند الإنشاد، ومن أودع المنشد جمال الاتقان للنغمة عندما ينشد، من أوجد فيها سر تحريك نفسه، الله، فهو يعيش معه في سائر أحواله يرتقي بذكره إلى شيء اسمه الذوق هذا الذوق يجعله ينظر إلى الحياة ويعيش مع الحياة معنىً غير الذي يعيشه من انقطعوا عن ذوق لذة الصلة بالله عز وجل، نور الصلة بالله سبحانه وتعالى
[img][/img]