زائر زائر
| موضوع: زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد الأحد أكتوبر 03, 2010 4:10 am | |
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد
وقف رسول الله يودع جيش الإسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا:
" عليكم زيد بن حارثة.. فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب.. فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة".
فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟
من هذا الذي حمل دون سواه لقب حبّ رسول الله..؟
أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن. وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو إلى داره وعمله، يدفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده. لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود. وكذا ودّعهما ودموعه تسيل ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!! **
ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث. وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، بإحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع، زيد بن حارثة. وعادت الأم إلى زوجها وحيدة. ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد.
**
عندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت إلى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى. ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة. وكانت خديجة ا، قد صارت زوجة لمحمد بن عبد الله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون من المرسلين. ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول الله فتقبله مسروراً وأعتقه من فوره وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية. وفي أحد مواسم الحج التقى نفر من حيّ حارثة عيبيد في مكة، ونقلوا إليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه: " أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد".
ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير إليه، ومعه أخوه. وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين ولما لقياه قالا له: "يا بن عبد المطلب... يا ابن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه".
كان الرسول يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق أبيه فيه. هنالك قال نبي الله لحارثة: "ادعوا زيدا، وخيّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء... وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!
وتهلل وجه حارثة الذي لم يكن يتوقع كل هذا السماح وقال: " لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف"..
ثم بعث النبي إلى زيد، ولما جاء سأله: "هل تعرف هؤلاء"..؟
قال زيد: "نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي."
وأعاد عليه الرسول ما قاله لحارثة، وهنا قال زيد: " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم"..!!
ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به إلى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى الرسول: "اشهدوا أن زيداً ابني.. يرثني وأرثه"..!!
وكاد قلب حارثة يطير من الفرح؛ فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابناً للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها.
وعاد الأب والعم إلى قومهما، مطمئنين على ولدهما الذي تركاه سيّداً في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!! **
تبنّى الرسول زيداً وصار لا يعرف في مكة كلها إلا باسمه: هذا زيد بن محمد. وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمداً: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) [الآيات الأولى من سورة العلق]
ثم تتابع الوحي: ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر) [الآيات الأولى من سورة المدثر]
(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [المائدة:67]
وما أن حمل رسول الله تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل أنه كان أول المسلمين...!! **
أحبّه رسول الله حباً عظيماً، فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو "زيد الحبّ" كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام. تقول السيّدة عائشة ا: " ما بعث الرسول في جيش قط إلا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه..."
وزوّج رسول الله زيدا من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب ا قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله ، أو ترغب بنفسها عن نفسه. ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب. وحمل الرسول مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولاً عن إمضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته إليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة. وذهب الشناؤون يرجفون في المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟ فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبناء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا إلغاء عادة التبني، ومعلناً: (... وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكم ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً) [الأحزاب:4-5] (... فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمراً مفعولاً) [الأحزاب:37] ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبين) [الأحزاب:40]
وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة" وأصبح زيد أول رجل بل الوحيد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذي ذكر اسمه في القرآن.
**
وجاءت غزوة مؤتة...
كان الروم بإمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الإسلام خيفة.. بل صاروا يرون فيه خطراً يهدد وجودهم، ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح. فراحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الإسلام. وأدرك رسول الله هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الإسلام، فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الإسلام إلى أرض البلقاء بالشام، حتى إذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود.
ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف، في حين نزل جيش الإسلام بجوار بلدة تسمّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها.
كان رسول الله يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار... ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية إلا في استشهاد عظيم يصافحون إثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم. وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في إمارة الجيش هم: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبدالله بن رواحة م وأرضاهم.
وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس إلى قلب ابن عمّه رسول الله وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش. وبمثل هذا، كان الرسول يقرر دوماً حقيقة أن الإسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الإنسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها إنسانية الإنسان...!! ولكأنما كان رسول الله يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع أمراء الجيش على هذا الترتيب.. فقد لقوا ربّهم جميعاً وفق هذا الترتيب أيضا..!!
ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب.. ولكن متى كانت معارك الإيمان معارك كثرة..؟؟ هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. وعانق زيد مصيره. وفاضت روحه تاركةً جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضمخّه دم طهور سال في سبيل الله..
المحبة للمصطفى صل الله عليه وسلم |
|