التصوف ومنشؤه
*
قال الدكتور حسن إبراهيم حسن: ومن المسائل التي شغلت أفكار المسلمين في ذلك العصر (التصوف) وذلك أن كثيرا من المسلمين الذين اشتهروا بالورع والتقوى لم يجدوا في علم الكلام ما يقنع نفوسهم المولعة بحب الله سبحانه وتعالى فرأوا أن يتقربوا اليه عن طريق الزهد والتشقف وفناء الذات في حبه تعالى ومن ثم سموا (بالمتصوفين)( [7]).
وأول من تسمى بالصوفي هو أبو هاشم الذي ولد في الكوفة وأمضى سواد حياته في الشام وتوفي في سنة / 150 / هـ( [8]) .
وغن أول من حدد نظريات التصوف وشرحها هو ذو النون المصري (245هـ) تلميذ الإمام مالك والذي شرحها وبوبها ونشرها هو الجنيد البغدادي المتوفى سنة (334هـ)( [9]).
ومنهم من قال: التصوف مشتق من الصوف، وقد كان يلبسه بعض العباد والزهاد الذين لا يميلون إلى الترف ، وقد وتهم في ذلك أهل الصفة الذين قال الله فيهم ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾( [10]) .
وأثر عن سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف.
والتصوف: لقب اصطلح الناس عليه والمراد به الشخص المسلم المتمسك بالكتاب والسنة، وممن عرف بالتصوف في الصدر الأول الإسلامي سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأنه أمة وحده يعيش وحده ويموت وحده كما أبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم سيدنا حذيفة بن اليمان وسيدنا سلمان الفارسي فقد كان يأكل من عمل يده (كان ينسج الخوص ويبيعه) ثم جاء من بعدهم الحسن البصري الذي كان يغط الناس ويرشدهم وقد ربى رجالا منهم مالك بن دينار ثم جاء بعد ذلك إبراهيم بن أدم ثم الإمام الجنيد والقشيري ثم ذو النون المصري المتوفى سنة (245هـ) والتصوف من حيث ذاته عقيدة وخلق وجهاد ودعوة ودعائمه الإسلام والإيمان والإحسان بما فيه المراقبة والمشاهدة ومتابعة (القرآن والسنة) وأهدافه التخلي عن كل رذيلة والتحلي بكل فضيلة والسلوك الملتزم بطاعة الله ورسوله وجهاد النفس وإصلاح الباطن والإيثار.
ويبدو لمتتبع هذه النحلة السامية أنها مرت بمراحل مختلفة قبل أن تتسمى بهذا الاسم المعروف فكانت أحوالها تظهر في كل مرحلة باسم معين وهكذا إلى أن استقرت باسم (التصوف) وآية ذلك أن الشيخ الأستاذ أبا القاسم القشيري يقول في رسالته الشهيرة (الرسالة القشيرية): اعلموا رحمكم الله أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا أفضلية فوقها فقد قيل (الصحابة )ولما أدرك العصر الثاني سمي من صحب الصحابة (التابعين) ورأوا ذلك أشرف تسمية ثم قيل لمن بعدهم (أتباع التابعين) ثم اختلفت وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس مم لهم شدة عناية بامر الدين (الزهاد والعباد) ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا بان منهم زهادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم (التصوف) واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر بعد المائتين من الهجرة( [11]) .
ومما يشير أيضا إلى أن اسم التصوف رف بعد القرن الثاني للهجرة ما أورده المسعودي في تاريخه (مروج الذهب ومعادن الجواهر) عن يحيى بن أكثم أن المأمون( [12]) كان جالسا ذات يوم إذ دخل عليه حاجبه علي بن صالح فقال: يا أمير المؤمنين رجل بالباب عليه ثياب بيض غلا يطلب الدعيب للمنارة فقال : إنه بعض المتصوفة ومما يشهد لهذا أيضا ما ذكره الكندي في كتاب (ولاة مصر في حوادث سنة مائتين ) أنه ظهر بالاسكندرية طائفة يتسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف هذا عن ذيوع اسم التصوف وانتشاره ولكن يبدو أن اسم التصوف كان موجودا قبل المائتين لكنه ذاع وانتشر بعد الماتي وفي ذلك يقول ابن تيمية في كتابه (الصوفية والفقراء)( [13]) : وأول ما ظهرت الصوفية من البصرة.
واول من بنى دويرة التصوف بعض أصحاب عبدالواحد بن زيد( [14]) وهو من أصحاب الحسن البصري رحمهم الله تعالى وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سار الأمصار ولهذا كان يقال، فقه كوفي وعبادة بصرية وبه يقول العلامة محمد كرد علي رحمه الله تعالى : وأول من تسمى بالصوفي في أهل السنة أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة (150) وكان من النساك يجيد الكلام وينطق الشعر كما وصفه الحفا مثل هاشم الأوقص وصالح بن عبدالله الجليل( [15]) ولسنا نهتم كثيرا بمصطلح الكلمة واشتقاقها بقدر اهتمامنا بمضمونها.
فإن شئت سم (التصوف) بالتزكية ونهي النفس عن الهوى كما قال تعالى ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾( [16]) أو سمه الإحسان أو علم التربية والسلوك ولكن لا مرفر لنا من إطلاق اسم التصوف عليه لأنه الاصطلاح الذي تعاهده أهل التاريخ وشاع عندهم أكثر من غيره.
والعجيب أن الذين اعترضوا على أنل التصوف جاؤوا بعد القرن السادس الهجري والذين كانوا في زمان أهل التصوف المؤسسين لم يعترضوا عليهم ، بل شهدوا لهم وأكدوا أنهم على الحق والنور والهدى وشهادتهم ستكون في مضمون هذا الكتاب ليقرأها طالب الحق.
• ويقول الدكتور أحمد علوش:
(قد يتسائل الكثيرون عن السبب في عدم هور هذه الدعوة إلا بعد عهد اصحابة والتابعين والجواب عن هذا: أنهلم تكن ثمة حاجة إليها في العصر الأول لأن أهل ذاك العصر كانوا أهل تقى وورع وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتسابقون ويتبادرون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمة ما يدعو إلى تلقينهم علما يرشدهم إلى أمر هم قائمون به فعلا وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القح يعرف اللغة العربية بالتوارث كابرا عن كابر حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة دون أن يعرف شيسئا من قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض ، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغ ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن وضعف التعبير أو لمن يريد من الأانب أن يتفهمها ويتعرف عليها أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.
فالصحابة والتابعون – وإن لم يتسما باسم المتصوفين- كانوا صوفيين فعلا وإن لم يكونوا كذلك اسما ، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه ، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات وسائر الكمالات التي وصل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي اروحي إلى أسمى الدرجات فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الإيمان والقيام بفروض الإسلام بل قرنوا الإقرار بالتذوق والوجدان وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من نوافل العبادات وابتعدوا عن المكروهات فضلا عن المحرمات حتى استنارت بصائرهم وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم وكذلك كان شان التابعين وتابعي التابعين وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى عصور الإسلام وخيرها على الإطلاق وقد جاء ن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (خير القون قرني هذا فالذي يليه والي يليه)( [17]) فلما تقادم العهد ودخل في حظيرة الإسلام أمم شتى وأجناس عديدة واتسعت دائرة العلوم وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يجيده أكثر من غيره فنشأ بعد تدوين النحو في الصدر الأول علم الفقه وعلم التوحيد وأصول الدين وعلوم الحديث والتفسير المنطق ومصطلح الحديث وعلم الأصول والفرائض (الميراث) وغيرها..
وحدث بعد هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئا فشيئا وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية والقلب والهمة مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هم من ناحيتهم أيضا على تدوين علم التصوف ، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم ولم يكن ذلك منهم احتجاجا على انصراف الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم – كما يظن ذلك – خطأ – بعض المستشرقين- بل كان سدا للنقص ن واستكمالا لحاجات الدين في جميع نواحي النشاط مما لابد منه لحصول التعاون على تمهيد أسباب البر والتقوى( [18]).
وقد بنى أئمة الصوفية الأولون أصول طريقهم على ما ثبت في تاريخ الإسلام نقلا عن الثقات الأعلام.
أما تريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه اله فقد سئل عن أول من أسس التصوف؟ وهل هو بوحي سماوي؟
فأجاب: (أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما بينها واحدا واحدا دينا بقوله: (هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم)( [19]). وهو الإسلام والإيمان والإحسان فالإسلام ط
اعة وعبادة والإيمان نور وعقيدة والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ... ).
ثم قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك : فإنه كما في الحديث الدين عبارة عن الأركان الثلاثة فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه فغاية ما تدعو اليه الطريقة وتشير اليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان( [20]).