وآخرون من دونهم كأنما عز عليهم أن يتبوأ عرش العلوم اللدنية عبد من عباد الله آتاه الله من لدنه
علما وحكمة ولم تؤته الدنيا أى حظ من علومها الدنيوية فلا هو قد خط بيمينه كتابا ولا هو قد
قرأه، سارع هؤلاء إلى أبى خليل وقد امتلأت عقولهم بشتى الأسئلة وازدحمت فيها مشكلات
مستعصيات من مختلف العلوم وظنوا أنهم بذلك سوف يقهرون هذا الأمى الذي كانوا يقولون إنه
قد اجترأ على ما ليس يحق له ولا هو من أهله "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا
كذبا".
وما أن وصلوا إليه يحاجونه حتى قهرهم سلطان العلم الربانى فآمنوا بقدرة الله رب العالمين
معتقدين بأن حصيلتهم من الكنوز العلمية التى كانوا يحسبون أنهم يملكونها لا تعدو القشور
والأصداف ومدوا إليه أيديهم يبايعونه على تقوى الله وطاعته ويد الله فوق أيديهم ولك أن تتصور
هذا الشيخ وقد أحاطت به الجموع الحاشدة ممن استجابوا لدعوته تغشاهم أسراره وتغمرهم أنواره
عيبحابة ممطرة فى أرض مجدبة يتطلع أهلها إليها لتروى ظمأهم وتخصب أرضهم وتنبت زرعهم
فالحق أنه كان هبة من السماء تمتلىء بالرحمة وبالعطاء والله ذو الفضل العظيم.
الشيخ أبو خليل صاحب الفتوحات الربانية:
بعد عهد من العيباد العلمى فى عصر المماليك بدأت مصر تشق طريقها إلى نهضة علمية شاملة
تلتمس روافدها فى الجامعات الأجنبية فتبتعث الطلاب اليها ليتعلموا منها كل جديد من العلم لم تكن
قد أشرقت شمسه بعد فى بلادنا وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم فظهرت نهضة ملحوظة فى إحياء
التراث العلمى وقامت مدرسة الشعر العربى تعيد للشعر أمجاده الأولى وتطلق الخيال خصبا فى
شتى مجالاته وفنونه، وكان للغات الأجنبية حظها الوافر فهى لغة المستعمر وقتذاك الذى أراد لها
أن تسود ليكون فى ذلك عون له على نشر ثقافته وإنجاح تخطيطاته.
كانت النهضة العلمية إذن قد بلغت مستواها المرموق فى بلادنا وقت أن ظهر الشيخ أبو خليل
حاملا رسالة الهدي والإصلاح الديني فالشعر العربي أعاد أمجاده أعلام من الشعراء أصحاب
مدرسة سامقة فيه ولغات الغرب وعلومه يتسابق طلاب العلم فى إجادة أصولها والارتشاف من
معينها، وعلوم الدين تزهو منارات الأزهر الشريف فى ساحاتها.
5
وإلى جانب ذلك كله كانت هناك تيارات الحادية بدأت تهب ريعيبا فى أجوائنا الطاهرة فأثارت
تلك التيارات الإلحادية جدلا ونقاشا حول ما يمكن أن يعتبر حقائق لا تقبل الجدل ولا النقاش
حولها.
لذلك فقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن تمتد أسرار القدرة الإلهية إلى الشيخ أبو خليل فغمرته
بالفيض المحمدي النبوي الذى لا ينضب والذى سيبقى ساريا من عصر إلى عصر حتى يأتى وعد
الله سبحانه، ولك أن تتصور هذا الولى الأمى وقد وفدت اليه جموع العلماء يحاجونه وأقبل عليه
المعترضون يجادلونه ويحاورونه فما ضاق أبو خليل بشئ من ذلك ولا عجز عنه ولكنه أفسح
صدره لكل فى مجاله مجيبا بذات اللغة التى يصاغ بها السؤال عربية أو انكليزية أو فرنسية بل إنه
كان يأمر أحد أتباعه وقد يكون أميا فيجيب على السؤال إجابة العالم المتمكن من علمه.
ولعلك تعجب إذا ما علمت أن أحدا من أتباع الشيخ ممن عرف عنه الإنشاد بالشعر إلهاما فى
مجالس الذكر كان يقف أحيانا فى الجانب الآخر من مجلس الشيخ تفصل بينهما جموع حاشدة من
المتعبدين الذاكرين فيوجه أحد الحاضرين ممن يجلسون إلى جوار الشيخ سؤالا إلى الشيخ بصوت
لا يسمعه غيرهما أو يكاد يسمعه المجاور لكل منهما فينادى الشيخ بصوت خافت أيضا: قل يا "
فلان " فينطلق ذلك التابع على الفور في إجابته على السؤال وهو بعيد المكان فمن أسمعه السؤال
ومن أسمعه الأمر بالإجابة ومن ألهمه الجواب؟ " الله رب العالمين فهو على كل شئ قدير. ٠
ولعل تيارا كهربائيا قد امتد على الفور من قلب شيخه إليه بطاقات روحية من الأسرار الربانية
ألهمته السؤال وألهمته الجواب بقدرة العلي القدير.
ومما يثير العجب أيضا أنه قد يتصادف وجود بعض أخطاء لغوية في صياغة بعض الأسئلة
باللغات الأجنبية فإذا بالشيخ يقول قل يا " فلان " وصحح الخطأ اللغوي في السؤال، ولكنه إذا
امتلأت قلوبنا إيمانا بقدرة الخالق الأعلى ويقينا بأنه سبحانه قد خرق نواميس الطبيعة للصالحين
من عباده الذين اختارهم أولياء له، تأييدا لهم في دعوتهم إليه سبحانه فإننا لن نعجب مهما رأينا أو
سمعنا عن كرامات للشيخ أبى خليل فقد أفنى حياته في الدعوة إلى طريق الله تعالى متمسكا
بشرعه مواظبا على ذكره سبحانه فأيده الحق تبارك وتعالى بسره لينصر وليه والله يؤيد بنصره
من يشاء.
ولا عجب أن يكون للشيخ أبو خليل مدرسة سامقة فى التصوف الإسلامي تخرج فيها دعاة إلى
6
الحق لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة متفرقين في شتى الجهات
هادين ومصلحين.
وفى عصر يوم الاثنين ١١ شوال ١٣٣٨ ه الموافق ٢٩ يونيو ١٩٢٠ م. توفى رضى الله عنه
ودفن فى المسجد المسمى باسمه بقسم النحال بمدينة الزقازيق بجمهورية مصر العربية.
وإذا كانت شمس حياة أبى خليل الدنيوية قد غربت وانتقل إلى جوار ربه فإن شمس حياته الدينية
لن تغرب ولا تزال ساطعة بأضوائها الهادية إلى الحق سبحانه وتعالى متمثلة في المبادئ الدينية
التي جعل منها منهاج مدرسته الصوفية.
وقد حمل رسالته من بعده الشيخ إبراهيم محمد أبو خليل أكبر أنجاله فقد كان يقول رضى الله عنه
حال حياته " الحمد لله الذي جعل خليفتي من بعدى ولدى إبراهيم ".