انتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان
(1) حلقة الذكر
أما حلقة الذكر فقد جاءت في كتاب اللّه تعالى والسنة المطهرة. أما الكتاب العزيز فقي قوله تعالى {والذاكرين اللّه والذاكرات} بطريق الجمع في كل الآي كما يؤخذ من بيان حضره من أسند اللّه تعالى إلى حضرته البيان والتبيين من قوله الشريف (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللّه عز وجل يذكرون اللّه إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم اللّه فيمن عنده) وفي قوله صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر فإذا حلقة تداعوا إليها هلموا إلى حاجتكم حتى يبلغون العنان) الحديث تقدم بطولة قريباً فراجعه غير أن هذه الرواية عند البخاري أيضاً (فإذا وجدوا حلقة تداعو إليها) ومن قوله الشريف صلى الله عليه وسلم حين دخل مسجده فوجد حلقتين حلقة علم وحلقة ذكر فجلس في حلقة العلم وقال (إنما بعثت معلما) وقدمنا قريباً الحديث القدسي من قوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة أنه قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في خير من ملئه) والمراد بالملأ الجماعة وهي لا تكون إلا حلقة أو مستطيلة وهي هيئة الحلقة أيضاً وغير ذلك كثير وفي هذا القدر كفاية خشية الإطالة فحلقة الذكر ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع فمن ينكر ذلك فهو بعيد عن آي الكتاب والسنة والإجماع، إذاً لا يعول على قوله، فمن الآن المحيي لسنة سيد العالمين بحلقات الذكر؟ هل التجار أو الصناع أو العلماء وهم أشغل من هذا وذاك؟ وقد قلت مراراً من يعترض على الصوفية فهو جاهل الجهل المركب وكان الأليق به أن يعترض على أمراء الآن وقضاة الآن وعلماء الآن والناس أجمعين الآن نسأل اللّه تعالى التوفيق.
(2) الإنشاد والمدائح
وأما النشيد على الذكر فهو من باب تشجيع الذاكر على الذكر ليجمع همته ويطرب قلبه ويتعلق بالمذكور فتتحرك الروح في الجسد فيه ليحصل له الوجل من اللّه تعالى والخشية منه تبارك وتعالى. قال عز من قائل {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايماناً وعلى ربهم يتوكلون} وقوله تعالى {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} وفي قوله تعالى {وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} وكل ذلك في معنى التحريض والتشجيع والحث على فعل ما أمر اللّه تعالى عباده به. وإليك ما رواه البخاري وغيره في السنة المطهرة: أن الأحابيش كانوا يلعبون بالدرك في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم للسيد عائشة (تشتهين؟) قالت نعم، فقامت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجعلت تنظر من على كتفه الشريف وهو يقول هيه ذونكم بني أرفدة فصار يشجعهم حتى قال لها حسبك قالت نعم وفي قوله صلى الله عليه وسلم لبني اسماعيل (ارموا فإن أباكم كان رامياً) تشجيعاً لهم وفي قوله في حفر الخندق:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا
ويقول كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب في يوم الأحزاب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي قوله صلى الله عليه وسلم لأنجشه سائق الإبل التي تحمل النساء وهو يحدوا عليها وهي تتحرك وتشتد في سيرها لتحمسها بالنشيد، فقال صلى الله عليه وسلم (رويدك أنجشة بالقوارير) وهكذا كان النشيد مشجعاً في الجاهلية والإسلام حتى كان أكثره في الحروب وفي الأفراح وفي الأعياد فهو سنة قديمة وعادة مستقيمة لئلا تفتر الهمم وتضعف عما هي بصدده.
(3) التمايل في الذكر والمدائح
وأما تمايل الذاكر في الذكر فهو حالة طبيعية وعادة فطرية، فطر اللّه الناس عليها وذلك إذا ما رأى شعيرة من شعائر اللّه تعالى أو آية من آيات عظيم قدرته أو بديع صنعته فإن الروح التي جعلها اللّه تعالى في عباده من المؤمنين تحن وتهيج إلى تلك العظمة الربانية فلا يسعها إلا الإضطراب والاهتزاز الخارج عن حالته العادية، هذا فيمن يشاهد آثار صفات الحق سبحانه وتعالى فكيف بمن ذكره سبحانه وردد اسمه تعالى على لسانه وقلبه كما وصفه تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}. روي سفيان عن السدي في قوله عز وجل {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم}. قال: (إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له - اتق اللّه كف ووجل قلبه) - أي خاف - والوجل هو الخوف، ووصف اللّه المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكر اللّه تعالى لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظيره هذه الآية {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} وقال تعالى {وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه} فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب والوجل الفزع من عذاب اللّه فلا تناقض وقد جمع اللّه تعالى بين المعنيين في قوله {اللّه نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه} أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى اللّه وإن كانوا يخافون اللّه. فهذه حالة العارفين باللّه الخائفين من سطوته وعقوبته فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم. وروى الترمذي عن العرباض بن الحديث. وسأل رجل الحسن (أي البصري) فقال: يا أبا سعيد، أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحشر والحساب فأنا مؤمن به، وإن كنت تسألني قوله تبارك وتعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقاً فو اللّه ما أدري أنا منهم أم لا، وقال أبو بكر الواسطي: من قال: أنا مؤمن باللّه حقاً، قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة، فمن فقدهم فقد دعواه فيه. وقد جاء في مجمع الزوائد عن عبداللّه بن عقبة: (كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتمايلون في الذكر كما يمايل الريح الأشجار).
فقد عرفت مما قدمنا أن الخوف والفزع يحصل للقلب عند وجود ما يحصل للشخص ما يكون سبباً لذلك وأيضاً عند حصول ما لم يألفه من قبل كما يحصل لكل انسان عند ذلك وإذا حصل للقلب الخوف والفزع يحصل الإضطراب لجميع الجسم فيرتعد لذلك وتضطرب أعصابه وهذا في كل بشر كما حصل لحضرته صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي من قوله الشريف للسيدة خديجة رضي اللّه تعالى عنها (دثروني دثروني) وأيضاً عند فترة الوحي من قوله: اللّهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين (زملوني زملوني رأيت الذي جاءني بحراء ساداً الأفق) فالوجل إذا حصل للقلب يحصل الأضطراب لجميع الأعصاب، لأن القلب للجسم كعمود الرمي فبأقل حركة منه تحرك جميع الجسد فإذا عرفت ذلك فاعرف أنه لا يحركه إلا أحد شيئين وهو الفزع أو السرور وحركة الفزع والخوف لها حالة خاصة، وحركة السرور لها أحوال عند صاحب القلب وهي أشد من الأولى لما في ذلك من فيض الفياض الكريم فيكون هذا عند صاحبه خير من الدنيا وما فيها ولقد شاهدنا العبد الصالح يقول واللّه لو ختم لي على الإيمان لرقصت قبل الموت بأيام، وإن أيامه قربت للآخرة وجاء بعد أيام وهو جالس مع الناس فقام وأخذ عصاه ووقف في الشارع يرقص ويقول: ختم لي بالإيمان ووصل منزله ومات رحمة اللّه تعالى عليه وعلى جميع المسلمين.
ومن الوجل الذي يحصل للقلب المغامرة الشديدة والإغلاق الفادح الذي لا يعرف صاحبه ما خرج منه من الكلام وهو الغضب الشديد حتى أن الشارع الشريف لم يؤاخذه بما يصدر عنه. روى أبو داود في سننه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق) قال الخطابي شارحه عقب الرواية كأنها من المتن أي في غضب يعني أن من دواعي اهتزاز الجسد شدة الغضب بل أحيانا يكون صاحبه في منتهى الرعشة فإذا كانت هذه دواعي الاهتزاز للجسم أفلا يكون الفرح من أكبر دواعي الاضطراب والرقص وخاصة إذا كان فجأة كما قال العارف:
هجم السرور عليً حتى أنه من فرط ما قد سرني أبكاني
فالفرح تحصل منه انفعالات في القلب تحصل منها الاضطرابات الجسمانية فيحصل الرقص وما هو أكثر من الرقص فما بالك بالذاكر لله تعالى المتعلق قلبه به سبحانه فإنه يكون أعلى وأرقى في الفرح والسرور ويكون صاحبها أكثر اضطراباً وتمايلاً لأن الذكر له لذة عجيبة وطرب غريب فإذا ما سمع المنشد وكان جالساً هام وقام ونزل الذكر مهتزاً متمايلاً من غير قصد ألا ترى أن الخيل إذا سمعت الطبل ترقص في مربطها والإبل بالغناء كما في حديث أنجشة وفي الواقع أن المسألة مسألة شعور وإحساس كما قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
فإذا كان الحيوان الأعجم يهتز للطرب أفلا يهتز الإنسان للذكر؟ لا يعرف هذا إلا من ذاق وعرف كما قال سيدي أبي يزيد البسطامي:
من ذاق طعم شراب القوم يدريه ومن دراه غدى بالروح يشريه
وقال سيدي أبو مدين الغوث شيخ سيدي محيي الدين بن العربي:
إذا هتزت الأرواح شوقاً إلى اللقا ترقصت الأشباح يا جاهل المعنى
4=التصفيق
أما التصفيق الذي يحدث من قائد الذاكرين بالضرب على كفيه على مقتضى نغمة الذاكرين بالذكر فهو جائز لأنه من قبيل النشيد الذي هو منشؤه إشحاذ أذهان الذاكرين وحملهم على جمع الهمة وجدهم واجتهادهم ليكون باعثاً لهم على استحضار قوتهم وتعلق قلب الذاكر باسم المذكور سبحانه وتعالى فهو أكبر محرك لمشاعرهم وموقظ لنفوسهم ومنبه لأروعيبم لتعلقها بخالقها ليكون التوجه منهم ظاهراً وباطناً حتى ينالوا الرحمة التي وعدهم سبحانه. ولا يخرجون من الذكر إلا بحظ وافر كما وعدهم سبحانه في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيرا} ولا يلذ لهم ذلك ولا تسهل عليهم تلك الكثرة إلا بذلك المشجع. وأما قول أعدائهم المستشهدين بقول اللّه تعالى {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} فهو مردود لأن اللّه تعالى عاب على الكافرين صلاتهم بالتغيير لها.